“ ليس للحرب وجه انثوي ” .. ماذا لو كتبت النساء التاريخ ؟ – ladlamp
[ad_1]
وقعت آلاف الحروب، قصيرة ومديدة، عرفنا تفاصيل بعضها وغابت تفاصيل أخرى بين جثث الضحايا. كثيرون كتبوا، لكن دوماً كتب الرجال عن الرجال. كلُّ ما عرفناه عن الحرب، عرفناه من خلال “صوت الرجل”. فنحن جميعاً أسرى تصوُّرات “الرجال” وأحاسيسهم عن الحرب، أسرى كلمات “الرجال”. أمَّا النساء فلطالما لذن بالصمت رغم مشاركة العديد منهم.
ففي بداية القرن العشرين وبالتحديد مع قيام الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، جُندت النساء في القوات الجوية الملكية البريطانية، وتشكل الفيلق الملكي المساعد والفرقة النسائية من المشاة الميكانيكية بتعداد 100 ألف مجندة. كما بدأت نساء كثيرات في روسيا وألمانيا وفرنسا في الخدمة في المستشفيات العسكرية والقطارات الصحية.
أما في الحرب العالمية الثانية فقد شهد العالم ظاهرة نسائية، حيث شاركت النساء في جميع صفوف القوات والأسلحة في كثير من بلدان العالم، وبلغ عدد النساء في الجيش البريطاني ما يقرب من 225 ألف مجندة، وفي الجيش الأمريكي من 450 – 500 ألف مجندة، وفي الجيش الألماني 500 ألف مجندة. وكان يحارب في الجيش السوفيتي نحو مليون امرأة، وكن يتقن جميع الاختصاصات العسكرية، بما فيها تلك التي تتطلب قوة الرجال.
وقد استطاعت المؤرخة الشفوية والكاتبة النثرية والصحفية الاستقصائية البيلاروسية، “سيفيتلانا أليكسيفيتش”، أن تسلط الضوء على دور المرآة في الحرب العالمية الثانية، في كتاب بعنوان ” ليس للحرب وجه انثوي”، وقد جمعت “سيفيتلانا” في كتابها ما يزيد عن ٢٠٠ اقتباس وقصة تبوح بها نساء سوفيتيات تطوعن خلال الحرب العالمية الثانية أو كما سمّاها الإعلام الرسمي للاتحاد السوفيتي سابقا بـ ”الحرب الوطنية الكبرى“.
واثارت “سيفيتلانا” أسئلة مهمة عن دور النساء في الحرب، لماذا لم تدافع النساء، اللواتي دافعن عن أرضهن وشغلن مكانهنَّ في عالم الرجال الحصري، عن تاريخهن؟ أين كلماتهنَّ وأين مشاعرهنَّ؟ ثمَّة عالم كامل مخفيٌّ. لقد بقيت حربهنَّ مجهولة ..
يؤرخ كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي» لحكايات وتجارب وصراعات وخطابات وآراء تصفها أليكسيفيتش بـ “تاريخ الإنسان في الحرب”، في حين تصف بعض راويات هذه الصراعات بالـ “حقيقة” بعدما لذن بـ “الصمت طويلاً” لاعتبار أنه من “المشين” الإفصاح عن هذه “المشاعر والعواطف” التي تعبّر عن أراء وصراعات الحرب يما يعاكس سرديات البطولة والانتصارات التي سادت آنذاك.
بدأت أليكسيفيتش العمل على جمع القصص والحكايات بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أي بعد أربعين عاماً على انتهاء الحرب، حيث أجرت ما يفوق ٨٠٠ مقابلة ورواية غير تلك الحكايات التي حصلت عليها عن طريق البريد. هو الكتاب الأول من سلسلة أليكسيفيتش من الأدب النثري الوثائقي عن “حكايات اليوتوبيا” التي وثقت وجهات نظر الناس عن الاتحاد السوفيتي وحروبه بعيداً عن الخطاب الرسمي. هنا، تشارك أليكسيفيتش الصعوبة التي واجهتها لنشر الكتاب في البداية وشاركت بالمقاطع التي حذفتها رقابة دور نشر الاتحاد السوفيتي كقصص حوادث تحرش رجال ببعض الراويات.
يجمع الكتاب مقتطفات من أحاديث ونقاشات جرت في غرف الجلوس أو المطبخ في ساعات متأخرة من الليل، مع نساء تطوعن قناصات وطيارات وجنديات وممرضات وجراحات وسائقات وغيرها من الأدوار الحربية التي خاضتها النساء ضمن جيش الاتحاد السوفيتي. يوثق الكتاب لخطابات وآراء لا تعظّم بالحرب الكبرى ولا تمجد الانتصار، بل تخبرنا عن قساوة الحرب وعن عنف الإنسان ومراحل تغيرها في الحرب، عن المجاعة والتعذيب وسعادة ارتداء السروال الداخلي النسائي، عن سعادة الانتقام وتعذيب أسرى العدو، عن الخسارة ودهشة الإنسانية والجوع، و تخاذل القادة و”المتعاونون مع العدو” وغيرها من حكايات الحرب التي سيتعرف عليها كل من عاشها. كما يوثق الكتاب لديناميات الصمت في الحروب إزاء الخطاب الرسمي أو السائد. وهنا تضم أليكسيفيتش ردود أفعال البعض على الكتاب أثناء رحلاتها عبر البلاد لإجراء المقابلات على تكلفتها الخاصة، فتقتبس وتروي هي أيضاً قصصاً عن التخوين والاستهزاء بقصص “غير سوفيتية” و”نسائية.”
تستهل أليكسيفيتش النص بتحديد موقعها كمؤرخة ”الإنسان في الحرب“. وتعرض منهجيتها في نقل بعض الروايات من غيرها، كما تناقش بشكل سردي رحلتها حول البلاد أثناء إجراء المقابلات والكتابة والصعوبات التي لحقتها في الميدان: ككسب الثقة والخوف والتردد والاستهزاء بـ”كتاب عن النساء في الحرب” وأنّ أفكاره “ليست سوفيتية” وكاتبته “لم تعش الحرب.”
ويمكن القول أن أكثر ما يميز لغة الكتاب هو الوصف والانتباه لتفاصيل مميزة لرؤية النساء، فمثلاً كان وصف الجمال حاضراً ”لقد قتلتُ جندياً ألمانياً، كان وسيماً“ أو ”كانت ترقد جميلة في التابوت“، كما أن لغتهنّ مليئة بالألوان والروائح وخشونة قماش الرداء العسكري، وثِقل الحذاء.
كانت لغة المتحدثات مفككة، بعبارات متقطعة ولاهثة، وأفكار متقافزة، ورغم أن تسجيل الإفادات حدث بعد مرور سنوات طويلة على الحرب العالمية الثانية إلا أن قص المتحدثات لقصصهن بهذه الطريقة بعث الحياة في القصص وكأنهن يحكينها تحت قصف الرصاص. ربما تكون الحرب من الهول بما لا يجعلها ماضٍ قابل للتحكم وإعادة الصياغة أبداً.
تمكنت سفيتلانا بانتخاب قصص محددة من بين مئات القصص التي جمعتها لتحدد نمطاً واحداً أو وحدة في الموضوع، ولأننا غير مطلعين على العدد الكلي للإفادات فلن نعرف إذا ما كانت هذه الموضوعات فرضت نفسها بكثافتها الإحصائية، أم أن سفيتلانا كانت تحمل نوايا مسبقة جعلتها تُعد أسئلة محددة، وتنتخب إجابات معينة دون الأخرى. إن كان هذا أو ذاك فالمحصلة كانت جيدة. عندما تحكي المحاربات قصصهن للكاتبة كانت تخرج الحكايات أكثر إنسانية وواقعية، كن يحكين قصصهن الخاصة عن الحب في الحرب، وعن سوءها، عن ثِقل الجرحى، وعن خوفهن من الدماء، لأنه بمرور السنوات تقشرت القصص وتبقى في الذاكرة المشاعر الحقيقية.
لكن بعضهن ما أن كان يحضر أحد أقاربهن أو ينتبهن لمسجلة الصوت كن يغيرن القصص الخاصة لصالح القصة العامة؛ ما يجب أن يُحكي لتنشئة الأجيال القادمة. رغبن في تعديل ”لقد كانت الحرب رهيبة“ إلى ”لقد انتصرنا“. حتى الرجال حين سمعوا قصص النساء -كانت أجزاء من الكتاب قد نُشرت في شكل مقالات صحفية قبل أن تُجمع مع بعضها- وصفوها بالتافهة، بل اعتبروها إساءة أن تخرج للعلن غير قصص البطولات والانتصارات، وطالبوهن بإخفاء التاريخ الشفهي والخاص واعتماد التاريخ المشترك الرسمي، المُصاغ من قبل الدولة، حتى بعد انهيار الفكر الشيوعي كانت الايدولوجيا تمد ذراعها لتتحكم في ذاكرتهن.
و”سفيتلانا أليكسيفيتش” ولدت في أوكرانيا عام ١٩٤٨ وعاشت فيما بعد في بيلاروسيا، كان والدها بيلاروسيًا وأمها أوكرانية. درست لتصبح صحفية في جامعة مينسك وعملت معلمة وصحافية ومحررة. عملت في مينسك في صحيفة Sel’skaja Gazeta ، وانتقدت أليكسيفيتش الأنظمة السياسية في الاتحاد السوفيتي ، وبعد ذلك أجبرتها بيلاروسيا بشكل دوري على العيش في الخارج ، على سبيل المثال في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والسويد.
لها العديد من المؤلفات الاخري، ولكن كتابها “ليس للحرب وجه انثوي” هو من فازت بسببه في عام 2015 بجائزة نوبل عن فئة الأدب النثري غير الخيالي أو غير الروائي، وقد ترجم كتابها الي 26 لغة وصدر منه اكثر من مليون نسخة.
[ad_2]